فصل: باب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا بيعًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْكَفَالَةِ فِى الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا

وَبعث عُمَرَ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلاً حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُم بِالْجَهَالَةِ‏.‏

وقال جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِى الْمُرْتَدِّينَ‏:‏ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ‏.‏

وقال حَمَّادٌ‏:‏ إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ، فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ‏.‏

وقال الْحَكَمُ‏:‏ يَضْمَنُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ عليه السَّلام أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ‏:‏ ائْتِنِى بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ‏:‏ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَقَالَ‏:‏ فَأْتِنِى بِالْكَفِيلِ، قَالَ‏:‏ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ‏:‏ صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا الأَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَيه، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى تَسَلَّفْتُ منه، وَسَأَلَنِى شَهِيدًا وَكَفِيلاَ، فَرَضِىَ بِكَ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ الكفالة فى القرض الذى هو السلف بالأموال كلها جائزة، وحديث الخشبة أصل فى الكفالة بالديون من قرض كانت أو بيع، والكفالة بالأبدان والحدود غير صحيحة، و يستحق المدعى علته الحد حتى ينظر فى أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا الكفالة بالنفس، وهذا قول مالك والليث والثورى والأوزاعى وأبو حنيفة و أحمد واختلف عن الشافعى، فمرة أجازها ومرة ضعفها‏.‏‏؟‏ وقالت طائفة‏:‏ لا تجوز الكفالة بالنفس، ولم يختلف الذين أجازوها فى النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لم يقم على الكفيل به حد، ولا لزمه قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة لحكم فى البدن‏.‏

وشذ أبو يوسف ومحمد، فأجازا الكفالة فى الحدود والقصاص، وقالا‏:‏ إذا قال المقذوف أو المدعى للقصاص‏:‏ بينتى حاضرة، كفلته ثلاث أيام‏.‏

واحتج لهما الطحاوى بما روى عن حمزة بن عمرو وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة حتى كتب إلى عمر فى ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن ذلك إنما كان على سبيل الترهيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل به؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وإنما تصح الكفالة فى الأموال؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وأصل الكفالة فى المال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ‏(‏أى‏:‏ كفيل وضامن‏.‏

واختلف الفقهاء فى من تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال، فقال الكوفيون‏:‏ من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذى على المطلوب‏.‏

وهذا أحد قولى الشافعى، وقال مالك والليث والأوزاعى‏:‏ إذا تكفل بنفسه وعليه مال، فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال‏:‏ لا أضمن المال؛ فلا شىء عليه من المال‏.‏

قال‏:‏ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم وإنما يطلب بمال، فإذا ضمنه له ولم يأت به، فكأنه قد فوت عليه وغره منه؛ فلذلك لزمه المال‏.‏

واحتج الطحاوى للكوفيين فقال‏:‏ أما ضمان المال بموت المكفول به، فلا معنى له إذا لم يشترط؛ لأنه إنما تكفل بالنفس وقد فاتت، ولا قيمة لها يرجع إليها بعد عدمه، وأيضًا فإنه تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث الخشبة أن من صح منه التوكل على الله فإن الله- عز وجل- ملى بنصره وعونه، قال الله تعالى ‏:‏ ‏(‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه ‏(‏فالذى نقر الخشبة توكل على الله ووثق به فى تبليغها وحفظها، والذى سلفه وطلب الكفيل صح منه أيضًا التوكيل على؛ لأنه قنع بالله كفيلاً وحميلاً، فوصل إليه ماله، وسيأتى حكم أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله فى كتاب اللقطة- إن شاء الله تعالى‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 33‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس،‏)‏ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ ‏(‏، قَالَ‏:‏ وَرَثَةً‏)‏ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ‏(‏، قَالَ‏:‏ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الأَنْصَارِىَّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ، لِلأُخُوَّةِ الَّتِى آخَى بَيْنَهُمْ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ ‏(‏نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ‏(‏، إِلاَ النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِىّ عليه السَّلام بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ‏.‏

- وفيه‏:‏ فقيل له‏:‏ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ‏)‏، قَالَ‏:‏ قَدْ حَالَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِى دَارِى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ قد روى عن النبى- عليه السلام- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا حلف فى الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة‏)‏ فإن قيل‏:‏ يعارض قول أنس‏:‏ ‏(‏حالف رسول الله بين قريش والأنصار فى دارى بالمدينة‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ كان هذا فى أول الإسلام، كان عليه السلام آخى بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بذلك العقد، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه، وكانت الجاهلية تفعل ذلك فى جاهليتها، فنسخ الله ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله ‏(‏ورد المواريث إلى القرابات بالأرحام والحرمة بقوله‏:‏ ‏(‏يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ‏(‏وأما الذى قال فيه عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما كان من حلف فى الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة‏)‏، فهو ما لم ينسخه الإسلام، ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى، وهو معنى قول ابن عباس‏:‏ إلا النصر والرفادة، أنها مستثناة مما ذكر نسخه من مواريث المعاقدين‏.‏

باب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ

وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ‏.‏

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّىَ عَلَيْهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ‏؟‏‏)‏، قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ‏)‏، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ‏:‏ عَلَىَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا‏)‏، فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السلام، عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ لِى كَذَا، فَحَثَى لِى حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِىَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ‏:‏ خُذْ مِثْلَيهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاء‏؟‏‏)‏، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً، صَلَّى عليه، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَىَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن تكفل عن ميت بدين، فقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ الكفالة جائزة عنه وإن لم يترك الميت شيئًا، ولا يرجع به فى مال الميت إن ثاب للميت مالك، و كذلك إن كان للميت مال وضمن عنه لم يرجع فى قولهم؛ لأنه متطوع‏.‏

قال مالك‏:‏ إذا تكفل عن ميت فله أن يرجع فى ماله، كذلك إن قال‏:‏ إنما أديت لأرجع فى ماله‏.‏

وإن لم يكن للميت مال وعلم الضامن بذلك فلا رجوع له إن بان للميت مال‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ لأنه بمعنى الهبة‏.‏

وشذ أبو حنيفة وخالف الحديث وقال‏:‏ إذا لم يترك الميت شيئًا فلا تجوز الكفالة، وإن ترك شيئًا جازت الكفالة بقدر ما ترك‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ هذا خلاف لحديث النبى؛ لأنه عليه السلام قد أجاز الضمان عن الميت الذى لم يترك شيئًا، واحتج من قال أنه لا رجوع له على الميت وإن كان للميت مال، أنه لو كان له رجوع لقام الكفيل مقام الطالب، فلم يكن النبى- عليه السلام- ليصلى عليه حين ضمن دينه أبو قتادة، وحجة مالك أن أبا قتادة علم أنه لا وفاء للميت حين ضمن دينه، ولو علم أن له مالاً وتكفل بدينه على أن يرجع به فى ماله، لم يمنعه من ذلك كتاب ولا سنة، بل هو الذى بينه عليه السلام بقوله‏:‏ ‏(‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه‏)‏، وكذلك اختلافهم إذا تكفل عن حى بغير أمره، فقال الكوفيون والشافعى‏:‏ لا يرجع به عليه إذا أداه؛ لأنه متطوع‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك أن له الرجوع بذلك على المطلوب‏.‏

وحجة مالك أن كل من فعل عن غير فعلاً كان واجبًا على الغير أن يفعله، فإنه واجب عليه الخروج مما لزمنه عنه قياسًا على الإمام يستأجر على السفيه والممتنع من أداء الحق‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وأما تحمل أبى بكر لعدات النبى- عليه السلام- وديونه، فذلك لأن الوعد منه عليه السلام يلزم فيه الإنجاز، لأنه من مكارم الأخلاق، وقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وإنما صدق أبو بكر من ادعى أن له قبل النبى عدةً أو دينًا؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس كذب على ككذب على غيرى، من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ فهو وعيد، ولا نظن بأن يقدم عليه من شهد الله لهم فى كتابه أنهم خير أمة أخرجت للناس‏.‏

وحديث أبى هريرة فيه‏:‏ تكفل النبى- عليه السلام- بديون من مات من أمته معدمًا، وتحمل كل دينهم وضياع عيالهم، وقد جاء هذا الحديث بهذا اللفظ‏:‏ ‏(‏ومن ترك كلاً أو ضياعًا فعلى‏)‏ قال‏:‏ وهذا الحديث ناسخ لتركه عليه السلام الصلاة على من مات وعليه دين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فعلى قضاؤه‏)‏ يعنى مما يفىء الله عليه من المغانم والصدقات التى أمر الله بقسمها على الغارمين والفقراء، وجعل للذرية نصيبًا فى الفىء، وقضى منه دين المسلم، وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين، فإن لم يفعله وقع القصاص منه فى الآخرة، ولم يحبس الغريم عن الجنة بدين له مثله فى بيت المال، إلا أن يكون الدين الذى عليه أكثر مما له فى بيت المال ولم تف بذلك حسناته، ومعلوم أن حق المسلم فى بيت المال وإن لم يتعين عنده مال من ماله، يعلمه الذى أحصى كل شىء عددًا، ومحال أن يحبس عن الجنة من له من الحسنات عند من ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه فى الدنيا مما يفى بدينه، والله أعلم‏.‏

باب جِوَارِ أَبِى بَكْرٍ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقْدِهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ إِلاَ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَ يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ‏؟‏ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ أَخْرَجَنِى قَوْمِى، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ‏:‏ إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ، فَطَافَ فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْدَهرِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لابْنِ الدَّغِنَةِ‏:‏ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاسْتِعْلاَنَ‏.‏

قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى، فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ‏[‏رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ‏)‏، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ‏]‏، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِى‏)‏، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم؛ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبى- عليه السلام- ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففى هذا من الفقه أنه إذا خشى المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضى بجوار الله وجوار رسوله- عليه السلام- وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسبا على الله وواثقا به، فوفى الله له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن الله لنبيه فى الهجرة، فخرج أبو بكر معه ونجاهم الله تعالى من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده تعالى من إظهار النبوة وإعلاء الدين، وكان لأبى بكر فى ذلك من الفضل والسبق فى نصرة نبيه وبذل نفسه وماله فى ذلك ما لم يخف مكانه، ولا جهل موضعه‏.‏

قال أبو على‏:‏ ‏(‏قط‏)‏ تجزم إذا كانت بمعنى التقليل، وتضم وتثقل إذا كانت فى معنى الزمن والحين من الدهر، تقول‏:‏ لم أر هذا قط، وليس عندى إلا هذا فقط، وأخفرت الرجل‏:‏ نقضت عهده، وخفرته‏:‏ منعته وحميته، وفى كتاب الأفعال‏:‏ طفق بالشىء طفوقاُ إذا أدام فعله ليلاً ونهارًا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطفق مسحاُ بالسوق والأعناق‏}‏‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْوَكَالَةِ

وَكَالَةُ الشَّرِيكِ فِى الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا

وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِىُّ عليه السَّلام عَلِيًّا فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عَلِىّ، أَمَرَنِى النَّبِىّ عليه السَّلام أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِى نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ضَحِّ بِهِ أَنْتَ‏)‏‏.‏

وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل، وهو بمنزلة الأجنبى فى أن ذلك مباح منه، وحديث على بين فى الترجمة، فإن قيل‏:‏ ليس فى حديث عقبة وكالة الشريك، قيل‏:‏ عقبة إنما وكله النبى- عليه السلام- على قسمة الضحايا وهو شريك للموهوب لهم، فتوكيله على ذلك كتوكيل شركائه الذين قسم بينهم الضحايا‏.‏

باب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِى دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ

- فيه‏:‏ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، بِأَنْ يَحْفَظَنِى فِى صَاغِيَتِى بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِى صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ‏:‏ لاَ أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِى بِاسْمِكَ الَّذِى كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ‏:‏ لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِى آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى تَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلاً ثَقِيلاً، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ‏:‏ ابْرُكْ، فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِى لأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِى حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِى بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الأَثَرَ فِى ظَهْرِ قَدَمِهِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ إذا وكل المسلم الحربى المستأمن أو وكل الحربى المستأمن المسلم فهو جائز‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ألا ترى أن عبد الرحمن بن عوف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أن يحفظهم‏؟‏ وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وترك عبد الرحمن بن عوف أن يكتب إليه عبد الرحمن لأن التسمية علامة، كما فعل ذلك النبى- عليه السلام- يوم الحديبية حين قال له رسول أهل مكة‏:‏ لا أعرف الرحمن فكتب باسمك اللهم‏.‏

فلم يضره محو ذلك عليه السلام، ولا تشاح فيه إذا ما محى من الكتاب ليس بمحو من الصدور، وإذ التشاح فى مثل هذا ربما آل إلى فساد ما أحكموه من المقاضاة‏.‏

وقوله‏:‏ فألقيت عليه نفسى لأمنعه، فلم يمتنع بذلك أمية بن خلف من القتل، هو منسوخ بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏يجير على المسلمين أدناهم‏)‏ لأن حديث أم هانئ كان يوم فتح مكة‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ مجازاة المسلمُ الكافَر على البر يكون منه للمسلم والإحسان إليه، ومفارضته على جميل فعله، والسعى له فى تخليصه من القتل وشبهه‏.‏

وفيه أيضًا‏:‏ المجازاة على سوء الفعل بمثله، والانتقام من الظالم، وإنما سعى بلال فى قتل أمية بن خلف، واستصرخ الأنصار عليه وأغراهم به فى ندائه‏:‏ أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا أمية؛ لأنه كان عذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، وكان يخرجه إلى الرمضاء بمكة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول‏:‏ لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال‏:‏ أحد أحد‏.‏

قال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ فكنت بين أمية وابنه آخذًا بأيديهما، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، فأحاطوا بنا و أنا أذب عنه، فضرب رجل ابنه بالسيف فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قلت‏:‏ انج بنفسك- ولا نجاية- فو الله لا أغنى عنك شيئًا فهذوهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما‏.‏

ذكره ابن إسحاق وذكر فى حديث آخر عن عبد الله بن أبى بكر وغيره عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ وكان أمية بن خلف لى صديقًا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقانى بمكة ويقول‏:‏ يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك‏؟‏ فأقول‏:‏ نعم‏.‏

فيقول‏:‏ فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئًا أدعوك به، فسماه عبد الإله‏.‏

فلما كان يوم بدر مررت به وهو واقف به مع ابنه على بن أمية، ومعى أدراع أسبيتها فأنا أحملها فلما رآنى قال‏:‏ يا عبد عمرو، فلم أجبه‏.‏

قال‏:‏ يا عبد الإله، قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ هل لك فى فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك، قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فطرحت الأدراع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول‏:‏ ما رأيت كاليوم قط، فرآهما بلال، فكان حديثه ما تقدم، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى‏.‏

وقول بلال‏:‏ أمية بن خلف، معناه عليكم أمية ابن خلف، ونصبه على الإغراء، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره‏:‏ هذا أمية بن خلف‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ صاغية الرجل‏:‏ الذين يميلون إليه ويأتونه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهو مأخوذ من صغى يصغو ويصغى صغوًا، إذا مال، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ‏(‏وكل مائل إلى شىء أو معه فقد صغى إليه، وأصغى من كتاب الأفعال‏.‏

باب الْوَكَالَةِ فِى الصَّرْفِ وَالْمِيزَان

وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ فِى الصَّرْفِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا‏)‏، وَقَالَ فِى الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏

الترجمة صحيحة، وبيع الطعام بالطعام يدًا بيد مثل الصرف سواء، وهو شبيهه فى المعنى، فلذلك ترجم لهذا الحديث باب الوكالة فى الصرف، وإنما صحت الوكالة فى هذا الحديث لقوله عليه السلام لعامل خيبر‏:‏ ‏(‏بع الجمع بالدراهم‏)‏ بعد أن كان باع على غير السنة، فلو لم يجز بيع الوكيل والناظر فى المال لعرفه عليه السلام بذلك، وأعلمه أن بيعه مردود وإن وقع على السنة، فلما لم ينه النبى- عليه السلام- إلا عن الربا الذى واقعه فى بيعه الصاع بالصاعين، دل ذلك أنه إذا باع على السنة أن بيعه جائز‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الوكالة فى الصرف جائزة، ولو وكل رجل رجلا يصرف له دراهم، ووكل آخر يصرف له دنانير، فالتقيا وتصارفا صرفًا جائزًا، أن ذلك جائز، وإن لم يحضر الموكلان أو أحدهما، وكذلك إذا وكل الرجل الرجلين يصرفان دراهم، فليس لأحدهما أن يصرف ذلك دون صاحبه، فإن قام أحدهما فى المجلس الذى تصارفا فيه قبل تمام الصرف انتقض الصرف؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء‏)‏‏.‏

وقال أصحاب الرأى‏:‏ إن قام أحدهما قبل أن يقبضا انتقضت حصة الذى ذهب، وحصة الثانى جائزة‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لم يجعل الموكل إلى أحدهما شيئًا دون الآخر، ولهذا أصل فى كتاب الله تعالى قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ‏(‏ولا يجوز لأحد من الحكمين أمر إلا مع صاحبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقال فى الميزان مثل ذلك‏)‏ يعنى‏:‏ أن الموزونات حكمها فى الربا حكم المكيلات، وهذا عند أهل الحجاز فى المطعومات التى يجرى فيها الكيل والوزن، والكوفيون يجعلون علة الربا الكيل والوزن فى المطعوم وغيره؛ لقوله فى الذهب والورق‏:‏ ‏(‏وزنًا بوزن‏)‏ وقوله فى الطعام فى حديث عبادة‏:‏ ‏(‏مدى بمدى وكيل بكيل‏)‏‏.‏

باب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِى أَوِ الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ ‏[‏ذَبَحَ‏]‏ وَأَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ

- فيه‏:‏ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَتْ لَه غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَنْ ذَاكَ، أَوْ أَرْسَلَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا‏.‏

قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ‏:‏ فَيُعْجِبُنِى أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه تصديق الراعى والوكيل على ما أؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب، وهذا قول مالك وجماعة، وقال ابن القاسم‏:‏ إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن، ويصدق إن جاء بها مذبوحة‏.‏

وقال غيره‏:‏ يضمن حتى يتبين ما قال‏.‏

واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى على إناث بغير أمر أربابها فهلك فقال ابن القاسم‏:‏ لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من صلاح المال ونمائه‏.‏

وقال أشهب‏:‏ عليه الضمان‏.‏

وقول ابن القاسم أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأن الرسول لما أجاز ذبح الأمة الراعية للشاة، وأمرهم بأكلها، وقد كان يجوز ألا تموت لو بقيت؛ دل على أن الراعى والوكيل يجوز له الاجتهاد فيما استرعى عليه ووكل به، وأنه لا ضمان عليه فيما أتلف باجتهاده إذا كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال والنية فى إصلاحه، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا؛ لما عرف من فسقه، وإن صدقه لم يضمنه‏.‏

باب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ

وَكَتَبَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَنْ يُزَكِّىَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُوهُ‏)‏، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُوهُ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ أَوْفَيْتَنِى أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً‏)‏‏.‏

هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى قوله‏:‏ لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصحيح البدن إلا برضى من خصمه أو عذر مرض أو سفر ثلاثة أيام، وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأن النبى- عليه السلام- أمر أصحابه أن يقضوا عنه السن التى كانت عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك‏.‏

ولم يكن عليه السلام غائبًا ولا مريضًا ولا مسافرًا، وعامة الفقهاء يجيزون توكيل الحاضر الصحيح البدن وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهذا قول ابن أبى ليلى ومالك و أبى يوسف ومحمد والشافعى إلا أن مالكًا قال‏:‏ يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدوا للخصم‏.‏

وقال سائرهم‏:‏ يجوز ذلك وإن كان الوكيل عدو للخصم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ اتفق الصحابة على جواز ذلك، فروى أن على بن أبى طالب وكل عقيلا عند أبى بكر، فلما أسر عقيل وكل عبد الله ابن جعفر، فخاصم عبد الله بن جعفر طلحة فى صغيرة أحدثها على عند عثمان، وأقر عثمان بذلك، فصار ذلك إجماعا، وقال النبى لعبد الرحمن بن سهل الأنصارى لما خاصم إليه فى دم أخيه عبد الله ابن سهل، الذى وجد مقتولا بخيبر بمحضر من عميه حويصة ومحيصة‏:‏ ‏(‏كبر كبر- يريد ولى الكلام فى ذلك الكبير منهما- فتكلم حويصة ثم محيصة، وكان الوارث عبد الله ابن سهل دونهما، فكانا وكيلين‏)‏، وأما إذا وكل وكيلا غائبًا على طلب حقه، فإن ذلك يفتقر إلى قبول الوكيل للوكالة عند الفقهاء، وإذا كانت الوكالة مفتقرة إلى قبول الوكيل فحكم الغائب والحاضر فيها سواء، فإن قيل‏:‏ فأين القبول فى حديث أبى هريرة‏؟‏ قيل‏:‏ عملهم بأمر النبى- عليه السلام- من توفية صاحب الحق حقه، قبول منهم لأمره عليه السلام‏.‏

باب الْوَكَالَةِ فِى قَضَاءِ الدُّيُونِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ لاَنجد إِلاَ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً‏)‏‏.‏

الوكالة فى قضاء الديون وجميع الحقوق جائزة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن من آذى السلطان بجفاء أو استنقاص، أن حقا على أصحابه وجلسائه أن يعاقبوه على ذلك، وينكروا عليه الجفاء وإن لم يأمرهم السلطان بذلك، وليس لهم أن يتركوا مثل هذا حتى ينهاهم السلطان عنه، كما نهى النبى- عليه السلام- الذين هموا بالذى أغلظ له‏.‏

و يبين هذا قصة المغيرة بن شعبة مع الشاب الأنصارى الذى جفا على أبى بكر الصديق، فكسر المغيرة أنفه، فاستعدى عليه الأنصارى ليقيده أبو بكر بن المغيرة، فقال أبو بكر‏:‏ والله لخروجهم من ديارهم أقرب إليهم من ذلك أقيده من ورعه أنفه وكذلك فعل المغيرة برسول أهل مكة يوم المقاضاة، إذ كان يكلم النبى ويشير بيده نحو لحيته، فضربه المغيرة بسيفه مغمدًا، فقال‏:‏ أقبض يدك عن لحية رسول الله قبل ألا ترجع إليك، فلم ينكر ذلك النبى- عليه السلام‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ

لِقَوْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ‏:‏ ‏(‏نَصِيبِى لَكُمْ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ‏)‏، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا‏:‏ فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ‏)‏، فَقَالَ النَّاسُ‏:‏ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يا رَسُولِ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِى ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ‏)‏، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا‏.‏

قال‏:‏ إذا كان الوكيل أو الشفيع طلب لنفسه ولغيره فشفع فيما طلب كان حكمهم كحكمه فى الشىء الذى سأل لنفسه ولهم، وأما إن وهب لقوم وقبض لهم وكيلهم تلك الهبة جازت، ولم يدخل الوكيل فى الهبة ‏,‏ والوفد رسل هوازن هم الوكلاء والشفعاء فى رد أموالهم إلى جماعتهم، فشفعهم النبى وقال لهم‏:‏ ‏(‏ونصيبى لكم‏)‏ يعنى‏:‏ من المال ومن العيال، ثم أخذ أنصباء الناس من العيال خاصة، وأبقى لهم المال لحاجتهم إليه‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ فيه من الفقه أن بيع المكره فى الحق جائز، لأن النبى- عليه السلام- حكم برد السبى، ثم قال‏:‏ ‏(‏من أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا‏)‏، ولم يجعل لهم الخيار فى إمساك السبى أصلا، وإنما خيرهم فى أن يعوضهم من مغانم أخر، ولم يخيرهم فى أعيان السبى، لأنه قال لهم هذا بعد أن رد إليهم أهليهم، وإنما خيرهم فى إحدى الطائفتين لئلا يجحف بالمسلمين فى مغانمهم فيخليهم منه كله، ويخيبهم مما غنموه وتعبوا فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى رفع النبى- عليه السلام- إملاك الناس عن الرقيق، ولم يجعل إلى تملك أعيانهم سبيلا دليل على أن للإمام أن يستعين على مصالح المسلمين بأخذ بعض ما فى أيدى الناس ما لم يجحف بهم، ويعد من لم تطب نفسه مما يأخذ منه بالعوض، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏من أحب أن يطيب بذلك‏)‏، فأراد عليه السلام أن يطيب نفوس المسلمين لأهل هوازن بما أخذ منهم من العيال، ليرفع الشحناء والعداوة، ولا تبقى إحنة الغلبة لهم فى انتزاع السبى منهم فى قلوبهم، فيولد ذلك اختلاف الكلمة‏.‏

وفيه أنه يجوز للإمام إذا جاءه أهل الحرب مسلمين بعد أن غنم أهليهم وأموالهم أن يرد إليهم عيالهم إذا رأى ذلك صوابًا كما فعل النبى- عليه السلام- لأن العيال ألذق بنفوس الرجال من المال، والعار عليهم فيهم أشد‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنا لا ندرى من أذن منكم فى ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم‏)‏ إنما هذا تقص من النبى فى استطابة نفوس الناس رجلا رجلا، وليعرف الحاضر منهم الغائب‏.‏

باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً أَنْ يُعْطِىَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِى فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ

- فيه‏:‏ جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، إِنَّمَا هُوَ فِى آخِرِ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏؟‏‏)‏ فَقُلْتُ‏:‏ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ إِنِّى عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَعَكَ قَضِيبٌ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطِنِيهِ‏)‏، فَأَعْطَيْتُهُ، فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بِعْنِيهِ‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ بَلْ، هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ‏)‏، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ تُرِيدُ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا بِلاَلُ، اقْضِهِ وَزِدْهُ‏)‏، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَزَادَهُ قِيرَاطًا، قَالَ جَابِرٌ‏:‏ لاَ تُفَارِقُنِى زِيَادَةُ النَّبِىّ، عليه السلام، فَلَمْ يُفَارِقُ الْقِيرَاطُ جِرَابَ جَابِرِ‏.‏

المأمور بالصدقة إذا أعطى ما يتعارف الناس ويصلح للمعطى، ولا يخرج عن حال المعطى جاز ونفذ، فإن أعطى أكثر مما يتعارف الناس، تعلق ذلك برضا صاحب المال، فإن أجاز ذلك جاز، وإلا رجع عليه بمقدار ذلك، والدليل على ذلك أنه لو أمره أن يعطيه قفيزًا فأعطاه قفيزين ضمن الزيادة بإجماع، فدل أن المتعارف يقوم مقام الشىء المعين‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا الحديث يبين أن من روى الاشتراط فى حديث جابر أن معناه‏:‏ أن النبى- عليه السلام- شرط له ذلك شرط تفضل، لأن القصة كلها جرت من النبى- عليه السلام- على جهة التفضل والرفق بجابر، لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده‏.‏

وجابر أيضًا قال للنبى حين سأله بيعه‏:‏ ‏(‏هو لك يا رسول الله‏)‏ يعنى‏:‏ بلا ثمن، وسيأتى إيضاح هذا المعنى و مذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الشروط بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وفيه بركة النبى عليه السلام‏.‏

قال ثعلب‏:‏ يقال بعير ثقال بفتح الثاء، أى‏:‏ بطئ، والثقال بكسر الثاء‏:‏ جلد أو كساء يوضع تحت الرحى يقع عليه الدقيق‏.‏

باب وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الإِمَامَ فِى النِّكَاحِ

- فيه‏:‏ سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ زَوِّجْنِيهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

وجه استنباط الوكالة من هذا الحديث‏:‏ هو أن الرسول لما قالت له المرأة‏:‏ ‏(‏قد وهبت نفسى لك‏)‏ كان ذلك كالوكالة له على تزويجها من نفسه، أو ممن رأى النبى تزويجها منه، فكان كل ولى للمرأة بهذه المنزلة أنه لا ينكحها حتى تأذن له فى ذلك، إلا الأب فى البكر، والسيد فى الأمة فإذا أذنت له وافتقر الولى إلى إباحتها ورضاها، كانت إباحتها ورضاها وكالة، وليست هذه الوكالة من جنس سائر الوكالات التى لا يفعل الوكيل شيئًا إلا والموكل يفعل مثله، من أجل أن الرسول قد خص النكاح أنه لا يتم إلا بهذه الوكالة بقوله‏:‏ ‏(‏أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل‏)‏‏.‏

وجمهور العلماء على أنه لا تلى المرأة عقد نكاح بحال‏:‏ لا نكاح نفسها، ولا امرأة غيرها، هذا قول ابن أبى ليلى ومالك والثورى والليث والشافعى، قال مالك‏:‏ ويفسخ النكاح وإن ولدت منه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إذا زوجت نفسها فحسن ألا يعرض لها الولى إلا أن تكون عربية تزوجت مولى فيفسخ‏.‏

وقال أبو حنيفة وزفر‏:‏ يجوز عقد المرأة على نفسها، وأن تزوج نفسها كفئًا‏.‏

واختلفوا إذا لم يكن لها ولى فجعلت عقد نكاحها إلى رجل ليس بولى، ولم يرفع أمرها إلى السلطان، فروى المصريون عن مالك أن للسلطان أن ينظر فيه، فيجيزة أو يرده كما كان ذلك للولى، وقد روى عن مالك فيمن تزوجت بغير ولاية من يجوز له ولايتها، ودخل بها، والزوج كفء فلا يفسخ، وقال سحنون‏:‏ قال غير ابن القاسم‏:‏ لا يجوز وإن أجازه السلطان والولى، لأنه نكاح عقد بغير ولى‏.‏

وهو قول ابن الماجشون، وحجتهم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أيما امرأة نكحت بغير ولى، فنكاحها باطل‏)‏‏.‏

باب إِذَا وَكَّلَ رجل رَجُلاً فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ وَكَّلَنِى النَّبِىّ عليه السَّلام بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ‏:‏ ‏[‏وَاللَّهِ‏]‏ لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ إِنِّى مُحْتَاجٌ ولىَّ عِيَالٌ، وَبِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ‏:‏ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، أَصْبَح، النَّبىُّ فقال‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ‏)‏، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ‏؟‏‏)‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ‏)‏، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ تزعم أَنَّكَ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ‏:‏ دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ‏:‏ مَا هِىَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ عَلَيِه السَّلاَم‏:‏ ‏(‏مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، وحكيت له القول، فَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ‏(‏ذَاكَ شَيْطَانٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ فترك الوكيل شيئًا، يريد أن أبا هريرة ترك الذى حثا الطعام حين شكا إليه الحاجة، فأخبر النبى- عليه السلام- بذلك، فأجاز فعله ولم يرده‏.‏

قال غيره‏:‏ ففهم من ذلك الحديث أن من وكل على حفظ شئ، أو أؤتمن على مال فأعطى منه شيئًا لأحد أنه لا يجوز، وإن كان بالمعروف، لأنه إنما جاز فعل أبى هريرة لأجازة النبى- عليه السلام- له، لأنه عليه السلام لم يوكل أبا هريرة على عطاء، ولا أباح له إمضاء ما انتهب منه، وإنما وكله بحفظه خاصة‏.‏

والدليل على صحة هذا التأويل أنه ليس لمن أؤتمن على شىء أن يتلف منه شيئًا، وأنه إذا أتلفه ضمنه إلا أن يجيزه رب المال، وفى تعلق جواز ذلك بإجازة رب المال دليل على صحة الضمان لو لم يجزه وهذا لا أعلم فيه خلافاُ بين الفقهاء‏.‏

وأما قوله‏:‏ وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، فلا أعلم خلافًا بين الفقهاء أن أحدًا لا يجوز له أن يقرض من وديعة عنده أو مال استحفظه لأحد شيئًا لا حالا ولا إلى أجل، ولكنه إن فعل كان رب المال مخيرًا بين إجازة فعله أو تضمينه، أو طلب الذى قبض المال‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ويخرج قوله فى الترجمة‏:‏ وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز لأن الطعام كان مجموعًا للصدقة، فلما أخذ السارق وقد حثا من الطعام، وقال له‏:‏ دعنى فإنى محتاج، وتركه، فكان سلفه ذلك الطعام إلى أجل، وهو وقت قسمته وتفرقته على المساكين، لأنهم كانوا يجمعونه قبل الفطر بثلاثة أيام للتفرقة، فكأنه سلفه إلى ذلك الأجل، وفيه من الفقه أن السارق لا يقطع فى مجاعة، وفيه أنه يجوز أن يعفى عنه قبل أن يبلغ الإمام، وفيه أنه قد يعلم الشيطان علمًا ينتفع به إذا صدقته السنة وفيه أن الكاذب قد يصدق فى الندرة، وفيه علامات النبوة، وفيه تفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ‏(‏يعنى‏:‏ الشياطين، أن المراد بذلك ما هم عليه من خلقتهم الروحانية التى جبلوا عليها فإذا تشخصوا فى صور الأجسام المدركة بالعين جازت رؤيتهم، كما تشخص الشيطان فى هذا الحديث لأبى هريرة فى صورة سارق‏.‏

باب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا بيعًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ‏:‏ جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مِنْ أَيْنَ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالَ بِلاَلٌ‏:‏ كَانَ عِنْدَى تَمْرٌ رَدِىٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ، عليه السلام، فَقَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، مرتين، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا خلاف بين العلماء أن كل من باع بيعًا فاسدًا أن بيعه مردود، وقول النبى- عليه السلام-‏:‏ ‏(‏أوه عين الربا‏)‏ دليل على فسخ البيع، لأن الله تعالى قد أمر بذلك فى كتابه، وقضى برد رأس المال بقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا ‏(‏وقوله‏:‏ ‏(‏فلكم رءوس أموالكم ‏(‏وقد روى فى هذا الحديث عن بلال أن النبى قال‏:‏ ‏(‏اردده مكسومًا‏)‏ وروى منصور وقيس بن الربيع عن أبى جمرة عن سعيد بن المسيب، عن بلال قال‏:‏ ‏(‏كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله صاعين بصاع، وأتيت النبى فقال‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ فحدثته بما صنعت، فقال‏:‏ هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير، ثم اشتر من هذا التمر، ثم جئنى‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فإنما الغرض فى بيع الطعام من صنف واحد- والله أعلم- مثلا بمثل التوسعة على الناس، ولئلا يستولى أهل الجدة على الطيب‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ تأوه الرجل آهة، إذا توجع، ويقال‏:‏ أوهة لك، فى موضع مشقة وهم، ويقال‏:‏ أوه من كذا، على معنى التذكر والتحزن‏.‏

باب الْوَكَالَةِ فِى الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ

- وَقَالَ عَمْرٍو فِى صَدَقَةِ عُمَرَ‏:‏ لَيْسَ عَلَى الْوَلِىِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِى صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِى لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا إنما أخذه عمر من كتاب الله فى ولى اليتيم فى قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف ‏(‏والمعروف ما تعارفه الناس بينهم غير مكتسب مالا، فهذا مباح عند الحاجة، وهذا سنة الوقف أن يأكل منه الولى له ويؤكل، لأن الحبس لهذا حبس، وليس هو مثل من أؤتمن على مال لغير الصدقة فأعطى منه بغير إذن ربه شيئًا، فإنه لا يجوز له ذلك بإجماع العلماء‏.‏

باب الْوَكَالَةِ فِى الْحُدُودِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ‏:‏ جِىءَ بِالنُّعَيْمَانِ، أَوِ ابْنِ النُّعَيْمَانِ شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ فِى الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوا، قَالَ‏:‏ فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالْجَرِيدِ والنِّعَالِ‏.‏

فى حديث أنس من الفقه أنه يجوز للإمام أن يبعث فى إنفاذ الحكم من يقوم مقامه فيه، كالوكيل للموكل‏.‏

واختلف العلماء فى الوكالة فى الحدود والقصاص، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يجوز قبول الوكالة فى ذلك، ولا يقيم الحد والقصاص حتى يحضر المدعى، وهو قول الشافعى، وقال ابن أبى ليلى وطائفة‏:‏ تقبل الوكالة فى ذلك، وقالوا‏:‏ لا فرق بين الحدود والقصاص والديون إلا أن يدعى الخصم أن صاحبه قد عفا، فيوقف عن النظر فيه حتى يحضر‏.‏

وقول من أجاز الوكالة فى ذلك يشهد له دلائل الأحاديث الثابتة، فإن قيل‏:‏ إن فى بعث النبى- عليه السلام- أنيسًا لإقامة الحد على المرأة إن اعترفت بالزنا دليلاً على ذلك، وأما حديث ابن النعيمان فإنما أقيم فيه الحد بحضرته عليه السلام‏.‏

قيل‏:‏ المعنى واحد، وذلك أنه لما كان الإمام لا يتناول إقامة الحد بنفسه، وأنه إنما يولى ذلك غيره، كان ذلك فى معنى إقامة أنيس الحد غائبًا عنه إن اعترفت المرأة لأن فى كلتا الحالتين إنما أقام الحد عن أمره عليه السلام بإقامته، وذلك فى معنى الوكيل، ويجئ على مذهب مالك أن الحد يقام على المقر دون حضور المدعى، خلاف قول أبى حنيفة والشافعى، لأنه حق وجب عليه، وليس دعواه على المدعى بها يسقط الحد مما يجب أن يلتفت إليه بمجرد دعواه، إلا أن يقيم بينه على ما ادعى من ذلك‏.‏

باب الْوَكَالَةِ فِى الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا

- فيه‏:‏ عَائِشَة، أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْىِ النَّبِىّ، عليه السلام، ثُمَّ قَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

الوكالة فى البدن وفى كل ما يجوز للإنسان أن ينوب عن غيره فيه منابه من الأعمال جائزة، لا خلاف فى شىء من ذلك، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج، فأغنى عن إعادته‏.‏

باب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ وَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِى بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ‏(‏قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ‏(‏فَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ‏)‏، قَالَ‏:‏ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏قد سمعت ما قلت‏)‏ يدل على قبول النبى لما جعل إليه أبو طلحة من الرأى فى وضعها، ثم رد النبى الوضع فيها إلى أبى طلحة بعد أن أشار عليه فيمن يضعها‏.‏

وفيه أن للوكيل أن يقبل ما وكل عليه وله أن يرد، وأن الوكالة لا تتم إلا بقبول الوكيل، ألا ترى أن أبا طلحة قال للنبى‏:‏ ‏(‏فضعها يا رسول الله حيث أراك الله‏)‏ فأشار عليه بالرأى، ورد عليه العمل وقال‏:‏ ‏(‏أرى أن تجعلها فى الأقربين‏)‏ فتولى أبو طلحة قسمتها‏.‏

وفيه‏:‏ أن من أخرج شيئًا من ماله لله ولم يملكه أحد، فجائز له أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير، وجائز أن يشاور فيه من يثق برأيه من إخوانه وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى، كما قال بعض الناس‏:‏ معنى قول الرجل‏:‏ لله وفى سبيل الله فى وجه دون وجه، ألا ترى أن هذه الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة، ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره‏.‏

واختلف الفقهاء إذا قال الرجل‏:‏ خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يأخذ منه شيئًا، لأنه إنما أمر بوضعه عند غيره‏.‏

وهذا يشبه مذهب مالك فى المدونة، سئل مالك عن رجل أوصى بثلث ماله لرجل أن يجعله حيث رأى، فأعطاه ولد نفسه، يعنى ولد الوصى أو أحدًا من ذوى قرابته، قال مالك‏:‏ لا أرى ذلك جائزًا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء وقال آخرون‏:‏ جائز له أن يأخذه لنفسه كله إن كان فقيرًا‏.‏

ووجه قول من قال‏:‏ لا يأخذ منه شيئًا لنفسه، لأن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه فى غيره، فكأنه أقامه مقام نفسه ولو فرقه ربه لم يحبس منه شيئًا، ووجه قول من قال‏:‏ يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعد ما قاله، ووجه قول من قال‏:‏ يأخذه كله لنفسه، أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ومعلوم أنه لا يحيط بجماعتهم، وأن المال إنما يوضع فى بعضهم، وإذا كان فقيرًا فهو من بعضهم لأنه من الصفة التى أمره أن يضعه فيها‏.‏

باب وَكَالَةِ الأَمِينِ فِى الْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِى يُنْفِقُ- وَرُبَّمَا قَالَ‏:‏ الَّذِى يُعْطِى- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِى أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كان أحد المتصدقين- والله أعلم- لأنه معين على إنفاذ الحسنة، وأما إذا أعطاه كارهًا غير مريد لإعطائه لم يؤجر على ذلك، لأنه لا نية له مع فعله، وقد اشترط النبى- عليه السلام- أن الأعمال بالنيات، فدل ذلك أنها إذا لم تصحبها نية لا يؤجر بها، ألا ترى أن المنافقين لم تقبل منهم صلاة ولا صيام ولا غيره إذ عريت أعمالهم عن النيات‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْمُزَارَعَةِ

باب مَا جَاء فِى الحرث والْمزارعة وَفَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ

وَقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ‏}‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل أن الصدقة على جميع الحيوان وكل ذى كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا نأمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم‏)‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن من يزرع فى أرض غيره أن الزرع للزارع، ولرب الأرض عليه كراء أرضه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا إلا كان له صدقة‏)‏‏.‏

فجعل الصدقة للزارع والثواب له خاصة دون رب الأرض، فعلمنا أنه ليس لرب الأرض حق فى الزرع الذى أخرجته الأرض وفيه الحض على عمارة الأرض لتعيش نفسه أو من يأتى بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الصناع، وأن الله تعالى أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلبًا للغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لمن زرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر، لأنه لا يؤجر أحد فيما لا يجوز فعله، وقد تقدم بيان هذه المسألة بأوضح من هذا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى- عليه السلام- بعد وفاته، فأغنى عن إعادته‏.‏

باب مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ وَتَجَاوِزِ الْحَدِّ الَّذِى أُمِرَ بِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو أُمَامَةَ، أنَّهُ رَأَى سِكَّةً أَو شَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ، فَقَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى هذا الحديث- والله أعلم- الحض على معالى الأحوال، وطلب الرزق من أشرف الصناعات لما خشى النبى على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد فى سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدى السلاطين وركاب الخيل‏.‏

ألا ترى أن عمر قال‏:‏ تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبًا لا يغلبكم عليها دعاة الإبل‏.‏

أى دعوا التملك و التدلك بالنعمة، وخذوا أخشن العيش لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدريب عليها والفروسية، لئلا تملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم بالوثوب على الخيل، وقد رأينا عاقبة وصيته فى عصرنا هذا بميلنا إلى الراحة والنعمة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه، لزمه الذل كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء فى خلقه لمخالطته من هو كذلك، وقد جاء فى الحديث ‏(‏من لزم البادية جفا‏)‏ وقد أخبرنا عليه السلام بما يقوى هذا المعنى فقال‏:‏ ‏(‏السكينة فى أهل الغنم، والخيلاء فى أصحاب الخيل، والقسوة فى الفذاذين أهل الوبر‏)‏، فكأنه قال‏:‏ والذل فى أهل الحرث، أى‏:‏ من شأن ملازمة هذه المهن توليد ما ذكر من هذه الصفات ومن الذل الذى يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة بخراج الأرضين‏.‏

وفيه‏:‏ علامة النبوة، وذلك أنه عليه السلام علم أن من يأتى فى آخر الزمان من الولاة يجورون فى أخذ الصدقات والعشور، ويأخذون فى ذلك أكثر مما يجب لهم، لأنه لا ذل لمن أخذ منه الحق الذى عليه، وإنما يصح الذل بالتعدى وترك الحق فى الأخذ‏.‏

باب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ اقتنِى كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلاَ كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏إِلاَ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ‏)‏‏.‏

اقتناء الكلب للحرث والماشية والصيد مباح بدليل الكتاب والسنة، وقد تقدم حكم الكلب فى جميع وجوهه فى كتاب البيوع وكتاب الصيد فأغنى عن إعادته‏.‏

باب اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ‏:‏ لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، قَالَ‏:‏ آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً، فَتَبِعَهَا الرَّاعِى، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ‏:‏ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِىَ لَهَا غَيْرِى، قَالَ‏:‏ آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ‏)‏‏.‏

وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِى الْقَوْمِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فبيان كلام البهائم من الآيات التى خصت بها بنو إسرائيل، لجواز أن تكون النبوة فيهم غير محظورة، وهذا الحديث حجة على من جعل علة المنع من أكل الخيل والبغال والحمير أنها خلقت للركوب والزينة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ‏(‏وقد خلقت البقر للحراثة، وأنطقها الله بذلك زيادة فى الآية المعجزة، ولم يمنع ذلك من أكل لحومها لا فى بنى إسرائيل ولا فى الإسلام، وفيه الثقة بما يعلم من صحة إيمان المرء وثاقب علمه والقضاء عليه بالعادة المعلومة منه، كما قضى النبى صلى الله عليه وسلم على أبى بكر وعمر بتصديق كلام البقرة والذئب، الذى توقف الناس عن الإقرار به، حتى احتاج رسول الله أن يقول أن هذا بقربه معه أبو بكر وعمر، وناهيك بذلك فضيلة لهما ورفعة، لشهادة النبى لهما الذى لا ينطق عن الهوى‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق القاضى‏:‏ قال لى على بن المدينى‏:‏ سمعت أبا عبيدة معمر ابن المثنى يقول فى حديث النبى، حين أخذ الذئب الشاة وأخذت منه- فقال‏:‏ ‏(‏من لها يوم السبع، يوم لا راعى لها غيرى‏)‏ قال‏:‏ ليس هو السبع الذى يسبع الناس، إنما هو عيد كان لهم فى الجاهلية يشتغلون بأكلهم ولعبهم، فيجئ الذئب فيأخذها‏.‏

باب إِذَا قَالَ اكْفِنِى مَئُونَةَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِى فِى الثَّمَرِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأَنْصَارُ‏:‏ اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لاَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ‏)‏، قَالُوا‏:‏ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أراد الأنصار مشاركة المهاجرين بأن يقاسموهم أموالهم، فكره رسول الله أن يخرج عنهم شيئاَ من عقارهم، و علم أن الله سيفتح عليهم البلاد فيغنى جميعهم، فأشركهم فى الثمرة على أن يكفوهم المئونة والعمل فى النخيل، وتبقى رقاب النخل للأنصار، وهذه هى المسافة بعينها‏.‏

قال غيره‏:‏ فإن وجد فى بعض طرق هذا الحديث مقدار الشركة بين المهاجرين والأنصار فى الثمرة صير إليه، وإلا فظاهر اللفظ يقتضى عملهم على نصف ما تخرج الثمرة، لأن الشركة إذا أبهمت ولم يذكر فيها حد معلوم حملت على المساقاة‏.‏

وروى عن مالك فى رجلين اشتريا سلعة فأشركا فيها ثالثاُ ولم يسميا له جزءا، أن السلعة بينهم أثلاثًا، فهذا يدل من قوله أنه لو كان المشرك واحدًا كانت بينهما نصفين‏.‏

واختلف أهل العلم فى الرجل يدفع المال قراضاُ على أن للعامل شركاُ فى الربح، فقال الكوفيون‏:‏ له فى ذلك أجر مثله، والربح والوضيعة على رب المال، وهو قول أحمد وإسحاق و أبى ثور، وقال ابن القاسم‏:‏ يرد فى ذلك إلى قراض مثله‏.‏

وقال الحسن البصرى وابن سيرين‏:‏ له نصف الربح‏.‏

وهو قول الأوزاعى وبعض أصحاب مالك‏.‏

وحديث أبى هريرة فى هذا الباب يدل على صحة قول الحسن ومن وافقه، لأن من رد القراض فى ذلك إلى أجر مثله، أو إلى قراض مثله فعلته أنه فاسد إذ لم يعلم مقدار الشركة فى الربح، و لو كان كما قالوا لكانت مساقاة المهاجرين للأنصار فاسدة حين لم يسموا لهم مقدار ما يعملون عليه، والقراض عند أهل العلم أشبه شىء بالمساقاة، ومحال أن تكون مساقاة المهاجرين للأنصار عن أمر النبى صلى الله عليه وسلم ورأيه الموفق فاسدة‏.‏

باب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخيلِ

وَقَالَ أَنَسٌ أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السلام، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَقَطَعَ وَهِىَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ‏:‏ وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِى لُؤَىٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ - فيه‏:‏ رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا كُنَّا نُكْرِى الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ‏:‏ فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا تُصَابُ الأَرْضُ، وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه، أو ليخلى مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه، يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر، لأن النبى قطع النخل بالمدينة، وبنى فى موضعه مسجده الذى كان منزل الوحى، ومحل الإيمان، وقد تقدم قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فى كتاب الجهاد، ونذكر منه طرفاُ فى هذا الباب‏.‏

احتج من أجاز قطع شجر المشركين وكرومهم بقطع الرسول نخل بنى النضير، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين، فلا بأس أن يترك ثمارهم، والوجهان جائزان، لأن أبا بكر الصديق أمر ألا يقطع شجر مثمر، ولم يجهل ما فعل النبى بنخل بنى النضير، وما اعتل به من قال‏:‏ إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين فلا يقطع، ليس بصحيح، لأن النبى- عليه السلام- كان قد أعلمه الله أنه سيفتح عليه تلك البلاد وغيرها، وبشر أمته بذلك ثم قطعها، فدل ذلك على إباحة الوجهين، و فى قطعها خزى للمشركين ومضرة لهم، وأما حديث رافع، فلا أعلم وجهه فى هذا الباب، ولعل الناسخ غلط فكتبه فى غير موضعه‏.‏

وفى رواية النسفى قبله باب فصل بينه وبين حديث ابن عمر، وسيأتى الكلام فيه فى موضعه بعد هذا- إن شاء الله- وسألت المهلب عنه فقلت له‏:‏ حديث رافع لا أعلم له وجهاُ فى هذا الباب، فقال لى‏:‏ قد يمكن أن يكون له فيه وجه، وهو أن من اكترى أرضاُ لسنين فله أن يزرع فيها ما شاء، ويغرس فيها الشجر وغيرها مما لا يضر بها، فإذا تمت الوجيبة قال صاحب الأرض‏:‏ احصد زرعك، واقلع شجرك عن أرضى، فذلك لازم لمكتريها حتى يخلى له أرضه مما شغلها به، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس لعرق ظالم حق‏)‏‏.‏

فهو من باب إباحة قطع الشجر‏.‏

باب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ

قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ‏:‏ مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَزَارَعَ عَلِىٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِى بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِىٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ‏.‏

وقال عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ الأَسْوَدِ‏:‏ كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِى الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا هُمْ بالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذا، وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا فَمَا خَرَجَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَقَتَادَةُ‏:‏ لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِىَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ، أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ‏.‏

وقال مَعْمَرٌ‏:‏ لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِى أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِىَ لَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ‏.‏

اختلف العلماء فى كراء الأرض بالشطر والثلث والربع، فأجاز ذلك على بن أبى طالب، وابن مسعود، وسعد، والزبير، أسامة، وابن عمر، ومعاذ، وخباب، وهو قول سعيد ابن المسيب وطاوس وابن أبى ليلى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وروينا عن أبى جعفر قال‏:‏ ‏(‏عامل رسول الله أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون بالثلث والربع‏)‏ وهو قول الأوزاعى والثورى و أبى يوسف ومحمد وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة، وكرهت ذلك طائفة، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وعكرمة، والنخعى، وهو قول مالك وأبى حنيفة، والليث، والشافعى، وأبى ثور أنه لا تجوز المزارعة، وهى كراء الأرض بجزء منها، وتجوز عندهم المساقاة‏.‏

وقال أبو حنيفة وزفر‏:‏ لا تجوز المزارعة ولا المساقاة بوجه من الوجوه، وقالوا‏:‏ المزارعة منسوخة بالنهى عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهى إجارة مجهولة؛ لأنه قد لا تخرج الأرض شيئًا، وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهى عن المزابنة‏.‏

وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبى- عليه السلام- ساقى يهود خيبر على شطر ما يخرج من الأرض والثمر جميعًا‏)‏ قالوا‏:‏ والأرض أصل مال فيجوز أن يعطيها لمن يعمل فيها كالثمن سواء وكالقراض، واحتج الذين منعوا المزارعة بأنها كراء الأرض بما يخرج منها، وهو من باب الطعام بالطعام نسيئة، وقد نهى رسول الله عن المخابرة، والمحاقلة، وهى كراء الأرض بما يخرج منها، وقالوا‏:‏ لا حجة لكم فى مساقاة النبى- عليه السلام- لأهل خيبر، لأن خلافنا لكم إنما هو إذا لم يكن فى الأرض شجر وكانت الأرض مفردة، والنبى- عليه السلام- إنما عامل أهل خيبر على النخل والشجر وكانت الأرض تبعًا للثمرة، وهذا يجوز عندنا، وأما إذا كانت الأرض مفردة فلا يجوز؛ لأنه يمكن إجارتها، ولا تدعو إلى مزارعتها ضرورة كما تدعو إلى مساقاة الثمر، ألا ترى أن بيع الثمر الذى لم يبد صلاحه من أصل النخل جائز وإن لم يشترط فيه القطع؛ لأنه تبع للنخل، ولا يجوز بيعها مفردة من غير شرط القطع؛ لأنها لا تكون تبعًا لغيرها بل تكون مقصودة بالبيع، فلم يكن حكمها مفردًا كحكمه إذا كان مضافًا، وأما قياسهم المزارعة على القراض والمساقاة فالجواب عنه‏:‏ أن رأس المال فى ذلك لا تجوز إجارته، ولا يتواصل إلى منفعته إلا بالعمل عليه، فجاز أن يعطيه لمن يعمل فيه وتكون المنفعة بينهما، وليس كذلك الأرض؛ لأنه يمكن إجارتها‏.‏

واحتج الذين منعوا المساقاة بأن النبى- عليه السلام- لما فتح خيبر أقرهم فى أرضهم ملكًا لهم، وشرط عليهم نصف الثمرة جزية، فكان ذلك يؤخذ منهم بحق الجزية لا بحق المساقاة‏.‏

فقال لهم مخالفوهم‏:‏ هذا باطل من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ ما روى عبد العزيز ابن صهيب عن أنس ‏(‏أن النبى- عليه السلام- افتتح خيبر عنوة‏)‏ وقال ابن شهاب عن ابن المسيب‏:‏ ‏(‏خمس رسول الله خيبر، ولا يخمس إلا ما أخذ عنوة‏)‏‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن النبى- عليه السلام- قسم الأرض بين الغانمين، فأعطى الزبير سهمه، وأعطى عمر سهمه من خيبر، فوقف عمر سهمه‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ أن عمر أجلاهم من خيبر إلى الشام لما فدغوا ابنه، ولو أقرهم النبى- عليه السلام- على الأرض ولم يملكها عليهم؛ لم يكن لمن بعده أن يجليهم وأن يفارق بينهم وبين أرضهم‏.‏

وجواب آخر‏:‏ وهو أن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏إن رسول الله بعث ابن رواحة إلى خيبر ليخرصها، ويعلم مقدار الزكاة فى مال المسلمين‏)‏، فأخبرت عائشة أن ذلك مال المسلمين، وأن الزكاة كانت تجب فيه، فبطل قولهم‏:‏ إن ذلك جزية؛ لأن الجزية لا تجب فيها زكاة، قاله ابن القصار‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، فإن الذين أجازوا المزارعة بالثلث والربع اختلفوا فيمن يخرج البذر، فروى عن ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر أنهم قالوا‏:‏ يكون البذر من عند العامل‏.‏

وروى عن بعض أهل الحديث أنه قال‏:‏ من أخرج البذر منهما فهو جائز، لأن النبى- عليه السلام- دفع خيبر معاملة، وفى تركه اشتراط البذر من عند أحدهما دليل على أن ذلك يجوز من عند أيهما كان‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ البذر يكون من عند صاحب الأرض، والعمل من الداخل‏.‏

وقال محمد بن الحسن وأصحابه‏:‏ المزارعة على أربعة أوجه‏:‏ ثلاثة منها جائزة، ووجه رابع لا يجوز، فأما الذى يجوز‏:‏ فأن يكون البذر من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبله، فهذا وجه‏.‏

والوجه الذى لا يجوز‏:‏ أن يكون البذر من قبل المزارع والعمل والآلة من قبل رب الأرض‏.‏

قال المفسر‏:‏ وأما وجه إجازتهم هذه الثلاثة الوجوه فإنما قاسوها على القراض، لأن العامل فيه يعمل بجزء من الربح معلوم، وإن كان لايدرى كم يكون مبلغ الربح فكذلك يجوز أن يكرى الأرض بجزء معلوم وإن لم يعلم مقدار ما تخرجه الأرض، وهذا أصله عندهم قصة خيبر‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لا يجوز أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبل رب الأرض، فإنه لما كان المزارع لم يخرج إلا البذر خاصة فكأنه باع البذر من رب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة، وهذا الوجه لا يجوز عند جميع العلماء‏.‏

وذهب مالك إلى أنه لا يجوز أن يكون البذر إلا من عندهما جميعًا، وتكون الأرض من عند أحدهما، والعمل من الآخر، ويكون فيه العمل يوازى قيمة كراء الأرض‏.‏

والعلماء متفقون على جواز هذا الوجه، لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عنده كراء الأرض‏.‏

والعلماء متفقون على جواز هذه الوجه؛ لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عند مالك؛ لأنه كأنه أكراه نصف أرضه بنصف بذره، ولا يجوز عنده كراء الأرض بشىء من الطعام، ويجوز عنده وجه آخر من المزارعة أن يكريا الأرض جميعًا، ويخرج أحدهما البذر، ويخرج الآخر البقر وجميع العمل، وتكون قيمة العمل والبقر مثل قيمة البذر فلا بأس بذلك؛ لأنهما سلما من كراء الأرض بالطعام وتكافئا فى سائر ذلك‏.‏

وأما تخيير عمر أزواج النبى- عليه السلام- بين الأوسق أو الأرض، من خيبر فمعنى ذلك أن أرض خيبر لم تكن للنبى ملكًا ورثت بعده؛ لأنه قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏، وإنما خيرهن بين أخذ الأوسق أو بين أن يقطعن من الأرض من غير تمليك ما يحد منه مثل الأوسق؛ لأن الرطب قد تشتهى أيضًا كما يشتهى التمر، فاختارت ذلك عائشة لتأكله رطبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنخل على أصلها وقفًا مسبلة فيما سبل فيه الفىء‏.‏

وأما اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد كل ذلك بجزء معلوم، فأجازه جماعة من التابعين، وهو قول أحمد بن حنبل قاسوه على القراض؛ لأنه يعمل بالمال على جزء منه معلوم، لا يدرى مبلغه، وكذلك إعطاء الثوب للنساج بجزء منه معلوم، وإعطاء الثور والغنم للراعى عند من أجازها، قاسها على القراض، ومنع ذلك كله مالك، والكوفيون والشافعى؛ لأنها عندهم إجارة بثمن مجهول لا يعرف، وأجاز عطاء، وابن سيرين، والزهرى، وقتادة أن يدفع الثوب إلى النساج ينسجه بالثلث والربع، واحتج أحمد بن حنبل بإعطاء النبى خيبر على الشطر‏.‏